شبهات وهميَّة حول سفر نشيد الأنشاد
====================
قال المعترض: »كيف يكون سفر نشيد الأنشاد بين أسفار التوراة وهو يحوي كل هذه الأمور الجنسية والحسيَّة، مع أن الرسول يوحنا يقول: »كل ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظُّم المعيشة. ليس من الآب بل من العالم« (1يوحنا 2:16)«.
وللرد نقول: (1) منذ القديم كان سفر نشيد الأنشاد ضمن الأسفار القانونية في التوراة. وبعد قرون من قبوله كسفر قانوني، وفي القرن الأول الميلادي، شكَّكت مدرسة الرباي شمّاي في قانونيته، فقال الرباي عقيبة بن يوسف (50-132م): »لم يجادل أحدٌ في قانونية سفر النشيد.. إن كل العصور لا تستحق اليوم الذي فيه أُعطي سفر النشيد لبني إسرائيل، فكل الوحي مقدس، ونشيد الأنشاد هو قدس الأقداس«. ويعتمد المسيحيون أسفار التوراة التي قبلها بنو إسرائيل كأسفار قانونية.
(2) يصف السفر مباهج الحياة الزوجية، ولا خطأ في الجنس الذي هو داخل إطار الزواج، فقد خلق الله حواء لآدم بعد أن قال: »ليس جيداً أن يكون آدم وحده« (تكوين 2:18). ويقول الحكيم: »افرح بامرأة شبابك.. ليُروِك ثدياها في كل وقت، وبمحبتها اسكر دائماً« (أمثال 5:18 و19). وقد حذَّر الرسول بولس المؤمنين من التعاليم الخاطئة للذين يرفضون الزواج، ثم قال: »لأن كل خليقة الله جيدة، ولا يُرفَض شيء إذا أُخِذ مع الشكر« (1تيموثاوس 4:3 و4). »الله الحي الذي يمنحنا كل شيء بغنى للتمتُّع« (1تيموثاوس 6:17). وقال كاتب رسالة العبرانيين: »ليكن الزواج مكرَّماً عند كل واحد، والمضجع غير نجس. وأما العاهرون والزناة فسيدينهم الله« (عبرانيين 13:4). لقد وضع الله الغريزة الجنسية في الناس، وقال الوحي: »لسبب الزنا، ليكن لكل واحد امرأته، وليكن لكل واحدة رجلها. ليوفِ الرجل المرأة حقَّها الواجب، وكذلك المرأة أيضاً الرجل« (1كورنثوس 7:2 و3).
(3) قال كثيرون من رجال الدين اليهود الأقدمين إن هذا السفر يشرح العلاقة الحبية بين الله وشعبه. وفي ضوء هذا التفسير قاموا بوضعه ضمن أسفار الوحي القانونية المعترف بها. وقد قبلت الكنيسة المسيحية السفر ضمن ما قبلته من الوحي المقدس. وقد رأى اليهود في هذا السفر تاريخ بني إسرائيل من الخروج إلى زمان المسيح، وقالوا إن بني إسرائيل هم العروس (اسمها شولميث) وإن الرب هو العريس، وإن اتحاد الشعب مع الرب سيكمل في المسيح. أما المسيحيون الأولون فقالوا إن العروس هي الكنيسة وإن العريس هو المسيح.
وقد بلغ من اعتزاز الكنيسة بهذا السفر أن قام القديس أوريجانوس في القرن الثالث الميلادي بتفسيره في عشرة مجلدات، ووجد في كل جملة من السفر معنى روحياً. وفي القرن الثالث عشر كتب »برنارد أوف كليرفو« 86 موعظة على آيات الأصحاحين الأول والثاني من هذا السفر.
أما عن أسلوب السفر وتسمية صاحب السؤال له أنه أدب مكشوف، فهو ظلم للكاتب، الذي عاش في عصر غير عصرنا، اعتاد أهل عصره على مثل هذه التعبيرات. وللسائل أن يراجع الشواهد التالية (إشعياء 49:14-21 و62:1-5 وإرميا 2:2 وحزقيال 16 وهوشع 2:14-23 و11:8 وفي العهد الجديد نجد علاقة المسيح بالمؤمنين هي علاقة الزيجة المقدسة (يوحنا 3:39 و2كورنثوس 11:2 وأفسس 5:22-32 ورؤيا 21:2).
ولو ادّعى أحد الغربيين هذه الدعوى لعذرناه لجهله باصطلاحات أصحاب السلوك، بخلاف الشرقي الذي تواترت عنده قصائد محيي الدين بن العربي، وقصائد ابن الفارض وغيرهما، فإن قصائدهم في العشق الإلهي أشهر من أن تُذكر. وقالوا في ابن الفارض:
جُزْ بالقرافة تحت ذيل العارض وقلِ السلامُ عليك يا ابنَ الفارض
أبرزتَ في نظم السلوك عجائباً وكشفتَ عن سرٍّ مصونٍ غامــض
وشربتَ من بحر المحبة والولا فرُويتَ مــن بحــرٍ محيطٍ فائــض
قال المعترض: »لا ندري كيف يفسر رجال الدين المسيحي سفر نشيد الأنشاد، ولا ماذا يقولون فيه«.
وللرد نقول: هناك ثلاث طرق لتفسير سفر نشيد الأنشاد: (1) التفسير الحرفي: ويقول إن نشيد الأنشاد قصيدة حب بين الملك سليمان وزوجته، ولو أن المفسرين لا يعرفون أية زوجة قصد من بين زوجاته السبعمئة وسراريه الثلاثمئة (1ملوك 11:3)، ويقول بعضهم إنه قصد زوجته ابنة فرعون (1ملوك 11:1)، ويقول غيرهم إنها فتاة بسيطة اسمها شولميث (نشيد 6:13). فالسفر في رأيهم قصيدة محبة لزوجة، تعلِّمنا قداسة الزواج ونقاوته وجماله.
(2) التفسير الرمزي: ويهدف للتخلُّص من الأوصاف البدنية للمرأة التي أحبها الملك، ولرؤية معنى أعمق في السفر وهو محبة الرب لشعبه بني إسرائيل، وبمعنى أوسع محبة الرب لكل من يحبه من كل الشعوب، كمحبة الزوج لزوجته (راجع تعليقنا على هوشع 1:2). وهذا التفسير يعتنقه التلمود اليهودي والمشنا والترجوم. ويقولون إن نشيد 1:13 هو حلول السحابة بين الكروبين في قدس الأقداس.
(3) التفسير النبوي: وقد أدخله إلى الفكر الكنسي كلٌّ من أوريجانوس وهيبوبوليتس، ويقول إن السفر نبوَّة عن مجيء المسيح وإعلان محبته للكنيسة التي تتكوَّن من كل من يقبلونه من كل قبيلة وأمة وشعب ولسان، وقد شبَّه الرسول بولس علاقة الزوجين السعيدين بعلاقة المسيح بالكنيسة، فقال: »يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته، ويكون الاثنان جسداً واحداً. هذا السرُّ عظيم، ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة« (أفسس 5:31 و32). ويفسر هذا الرأي الأصحاحات الثلاثة الأولى بأنها وصفٌ للمحبة المتبادلة بين المسيح والكنيسة، وأن الأصحاح الرابع وصف لجمال الكنيسة، والأصحاح الخامس يصف محبة المسيح للكنيسة الجميلة، فتعلن الكنيسة في الأصحاحات 6-8 إيمانها بالمسيح ورغبتها فيه ومحبتها له.. ويقول هذا التفسير إن الكنيسة سوداء بسبب الخطية، ولكنها جميلة بالفداء (نشيد 1:5)، وأن نشيد 1:13 يتحدث عن المسيح بين أسفار العهدين القديم والجديد (وهذا تفسير كيرلس الإسكندري)، وأن نشيد 2:12 »صوت اليمامة سُمع في أرضنا« يشير إلى وعظ الرسل بالإنجيل، وأن 5:1 الذي يتحدث عن الوليمة يرمز إلى العشاء الرباني (وهذا رأي كيرلس الإسكندري)، وأن الثمانين سُرِّية المذكورين في 6:8 يشيرون إلى ثمانين هرطقة (وهذا رأي أبيفانيوس).
اعتراض على نشيد 5:16 - المشتهيات
انظر تعليقنا على حجي 2:7
قال المعترض: »جاء في النشيد 6:8 »هنًّ ستون ملكة وثمانون سُرِّية، وعذارى بلا عدد« فيكون عدد نسائه مئة وأربعين. وهذا يناقض ما جاء في 1ملوك 11:3 »وكانت له (لسليمان) سبع مئة من النساء السيدات، وثلاث مئة من السراري، فأمالت نساؤه قلبه«.
وللرد نقول: لا بد أن الفقرتين تشيران إلى زمنين مختلفين، فعندما كتب سليمان سفر النشيد كانت لديه مئة وأربعون سيدة، وزاد العدد في زمن لاحق إلى ألف. ثم أن عبارة سفر النشيد تضيف عبارة »عذارى بلا عدد« مما يمكن أن يجعل العدد الكلي ألفاً.